الضربة العسكرية لسوريا تؤسس لتوازنات جديدة للقوة عربياً وإقليمياً ودولياً (تحليل)
الرئيس الأمريكي باراك
تدخل الأزمة السياسية السورية في نفق مظلم لا يمكن استقراء مداه، في ظل مواصلة إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما البحث
عن غطاء سياسي خارجي وتفويض من الكونجرس لعملية عسكرية ضد نظام الرئيس السوري بشار الأسد.
فمع تأكيد وزراء خارجية الدول الأوروبية ضرورة حصول ''رد واضح وقوي'' وتحميل النظام السوري مسؤولية الهجوم الكيماوي في مدينة الغوطة، دعا مجلس التعاون الخليجي إلى ''تدخل فوري'' بهدف ''إنقاذ الشعب السوري من بطش النظام''.
وضمن جهود واشنطن لحشد الدعم الدولي لتوجيه ضربة عسكرية للنظام السوري، التقى وزير الخارجية الأمريكي جون كيري وزراء خارجية جامعة الدول العربية في باريس، كما ناشد أوباما مواطنيه في خطابه الإذاعي الأسبوعي دعمه في هذا المسعى.
ومن هنا يمكن القول أن أمر الضربة العسكرية الدولية بقيادة واشنطن لسوريا بات مؤكداً وحتمياً، سواء حصل الرئيس على الموافقة من مجلسي الكونجرس''الشيوخ والنواب'' أو لم يحصل عليها.
وكان الرئيس أوباما حذراً في تأكيده أن دعوة الكونجرس إلى المناقشة بهذا الشأن ليست من أجل الحصول على إذن، انطلاقاً من قراءته، وقراءة من سبقه من الرؤساء، للصلاحيات الدستورية بما يمنحه حرية التصرف في حالات كهذه، من دون تفويض مباشر من السلطة التشريعية. فإذا ما استتب التصويت لمصلحة تخويل الرئيس توجيه الضربة، وهو الأمر المتوقع، يكون أوباما قد ضمن غطاء سياسياً لخطوته.
أما إذا كانت النتيجة الاعتراض على هذا العمل ومطالبة الرئيس بالامتناع عنه، فإن أوباما قد يجد نفسه مرغماً على مخالفة موقف الكونجرس كي لا تشكل تلبيته له ـ إن حدثت ـ سابقة تلزمه الامتناع تحديداً عن استعمال أدوات استفاض في استعمالها في الأعوام الأخيرة، ولا سيما منها الطائرات من دون طيار التي تشن حرباً متواصلة على التنظيمات المعادية دون رقابة وتفويض من الكونجرس.
ضرب سوريا وخلق توازنات جديدة:
وأياً كان الأمر، فالذي لا شك فيه أن هذه الضربة العسكرية لسوريا، سوف تعمل على تأسيس أو خلق توازنات جديدة في المنطقة، توازنات عربية وإقليمية ودولية تُعيد هيكلة موازين القوة في العالم.
فمن المعروف أن مفهوم توازن القوة لا يقوم على التوازن بالمعنى الدقيق ولكن بالقدرة على فرض مصالح الدول القوية على الدول الأقل قوة، ولذا قد يستخدم المفهوم من منظور توزيع القوة بين الدول، وحرص القوى الإقليمية والدولية التي تتصارع على تغيير نمط هذا التوزيع إما بالسيطرة على موارد القوة، أو بحرمان القوى الأخرى من امتلاكها، وقد يستخدم كسياسة بمعنى حرمان أية دولة أخرى منافسه من امتلاك مصادر القوة، أو حتى تغيير نمط توزيع القوة، وهذا التفسير ينطبق على بنية القوة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط وسط تطورات الأحداث في سوريا، وهو ما قد يفسر الذهاب إلى الخيار العسكري لثبيت توازنات قوة تسعى قوى جديدة إلى تغييرها كإيران.
وحقيقة القول أن التأسيس أو خلق توازنات جديدة عربياً وإقليمياً ودولياً، هو الهدف الحقيقي من توجيه ضربة عسكرية لسوريا وذلك بقصد خلق مجموعة من المعطيات الجيوسياسية والجيواستراتيجية الجديدة التي تملك القدرة على إعادة تشكيل العلاقات الثنائية بين دول الإقليم نتيجة لهذه المتغيرات التي تحدثها الضربة العسكرية وبالتالي تعمل على إحداث صياغات جديدة للأمن والتوازن الأمني بالمنطقة.
أول هذه التوازنات الجديدة فهي عربياً: من خلال العمل على تدعيم موقف مجلس التعاون الخليجي ليصبح قوة موازنة للقوة الإيرانية وذلك حماية للمصالح الأمريكية والغربية في منطقة الخليج.
كما أنه بات واضحاً انحياز جامعة الدول العربية للعمل العسكري ضد بشار الأسد، الأمر الذي يؤشر إلى محاولة القوى الكبرى العمل على التوظيف السياسي للمواقف العربية، فقد باتت ثورات الربيع العربي فرصة لهذه القوي الفاعلة لاختبار قدرتها علي الحركة المضادة وفرض تحكمها في مسار هذه الثورات، فكان النموذج الليبي الذي قادت فيه الدول النفطية وفي مقدمتها قطر عملية إخضاع الجامعة العربية للإرادة الغربية متسترة وراء مجلس الأمن لحسم الموقف هناك وإزاحة القذافي, بينما حرص الطرفان( دول النفط والغرب) علي الاحتفاظ بالأزمة اليمنية داخل النطاق الخليجي فقط وتحجيم دور الجامعة العربية إلي أدني حد.
ثاني توازنات القوة الجديدة على المستوى الإقليمي: تقوية الجانب التركي على حساب محاولة التخلص من أو تخفيض القوة الإيرانية في الملف السوري، فالاستراتيجية الأمريكية تقوم على التخلص نهائيا من الجيش السوري وإخراجه من معادلة الصراع مع إسرائيل تمهيدا للتدشين الرسمي والفعلي لما يمكن أن تسميه بـ''الحقبة الإسرائيلية'',وترسيخ وتعميق الدور التركي في إطار التحالف الغربي الأوسع وامتلاك أنقرة لدور سيادي بالتوازي مع إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط لخدمة الاستراتيجيات الغربية في الأساس, وتحويل الساحة السورية إلي مصدر تهديد لكل الدول العربية دون استثناء بما قد تشهده من وجود لفصائل إرهابية معروفة أو مستحدثة وتقاتل طائفي يتجاوز كل الحدود وغياب الاستقرار السياسي ووجود شكلي أو أجرائي لسلطة ممسوخة للدولة توظف فقط لتنفيذ ما يمليه الجانب الأمريكي وحتي لا تتورط قوي التحالف الغربي في وجود عسكري مباشر يجعل منها طرفا مباشرا في الصراعات القادمة في المنطقة.
ومن ناحية أخرى، يمكن القول أن سقوط النظام السوري لا شك أنه يصب في خانة القوة التركية في المنطقة، وحتي في ظل تفتيت الدولة السورية على أصعب التقديرات الاستراتيجية، ستكون لتركيا حصتها في الشمال السوري, وفي حال التقاسم الطائفي للسلطة في إطار حل سياسي ما, فسيكون لتركيا حصتها أيضا, وذلك على خلفية الحدود البرية التركية مع سوريا, ورغم هذا الدور التركي المرتقب في الإقليم، إلا أنها تخشي من بروز إقليم كردي في شمال سوريا له تماس جغرافي مع إقليم كردستان العراق, وهو ما يهدد بانتقال الطموح التركي إلي منطقة جنوبي شرق تركيا المأهولة بالأكراد, وقتها ستضطر تركيا إلي السيطرة علي مناطق الأكراد في سوريا اقتصاديا, علي غرار ما فعلت في كردستان العراق, وهذا سيعني مجهودا مضاعفا للاحتواء الاقتصادي والأمني.
أما ثالث توازنات القوة الجديدة، فهو على المستوى الدولي: إذ تقف الولايات المتحدة على رأس بنية القوة الدولية، التي لها مصالح استراتيجية في المنطقة في حالة الضربة العسكرية لسوريا، بل إنها تعتمد على عناصر القوة المتاحة في المنطقة لتثبيت قوتها ومصالحها وهي هنا تلتقي مع ''إسرائيل'' في الخيارات العسكرية بحكم سياسة التحالف بينهما، فالحفاظ على أمن إسرائيل هو المقصد الأول لأي توازنات للقوة من جديد في المنطقة.
وبالمقابل توجد في الجانب الآخر لمعادلة القوة، روسيا والصين، وعدد من القوى الصاعدة آسيوياً التي يحاول بعضها استعادة قوتها كقوة عظمى( روسيا والصين) متعارضة مع الولايات المتحدة، وتلتقي مصالحها مع إيران، أو تلك التي العمل على خلق توازنات جديدة للقوة من خلال تقوية نفوذها اقتصادياً وسياسياً ( الدول الآسيوية الصاعدة ) ، وهو ما يفسر موقف هذه القوى الدولية الأخرى في الأزمة السورية حفاظاً على قوتها ومصالحها، ومحاولتها تغيير توازنات القوة السائدة في المنطقة من أجل خدمة استراتيجيتها الأمنية والسياسية والاقتصادية.
إجمالاً، ستؤدى الضربة العسكرية لسوريا إلى خلق توازنات جديدة ليس في المنطقة فحسب، بل في هيكل وبنية النظام الدولي للقوة، الأمر الذي يشي إلى حدوث اختلالات بنيوية في تماسك المجتمع الدولي ومن ثم في هيكل الأمم المتحدة نفسه.